سعاد حسني (1942 ـ 2001)، هيَ حقا النجمُ المتألق لحقبة السبعينات السينمائية، المصرية. ومن تلك الحقبة، الذهبية، نستعيدُ أفلام نجمتنا، المهمة، التي تعدّ من معالم الفن السابع ؛ مثل " الحبّ الضائع "، " أين عقلي ؟ "، " نادية "، " الخوف "، " غروب وشروق "، و " الكرنك ". إنّ موهبة السندريلا، الكبيرة، والمنزّهة عن أيّ من شوائب التصنع والإستعلاء والإسفاف، قد إرتقت بفن السينما إلى مصافٍ غير مسبوقة ؛ عربياً على الأقل. كانت تلك الحقبة، الموسومة، حلقة وسيطة بين حقبة صعود السندريلا، الفنيّ، في الستينات، وما كان من تعثره في حقبة الثمانينات. في هذه الأخيرة، تعيّن على نجمتنا خلالها قبولَ أدوار، شبه ثانوية، في أفلام بغاية الرداءة ؛ من قبيل " المشبوه " و " حب في الزنزانة " أمام عادل إمام. الحقبة تلك، كما سبق ونوهنا أكثر من مرة في مقالات اخرى، كانت بدورها فاتحة إنحطاط السينما المصرية، والمتوافقة مع تردي نواحي الحياة جميعاً في موطن الكنانة، من ثقافية واجتماعية وسياسية. هذا دونما أن نغفل الإشارة هنا، إلى أفلام جيدة إضطلعت سعاد حسني ببطولتها وقتئذٍ ـ كما في " موعد على العشاء " لمحمد خان، و " أهل القمة " لعلي بدرخان. في المراحل الزمنية الأسبق، الموصوفة، بدا أنّ موهبة فنانتنا بلا حدودٍ، فيما يخصّ تجسيدها لأدوار مختلفة، من خفيفة ومركبة. إنّ ميلها التلقائيّ للأدوار الإجتماعية والإستعراضية، مبعثه شخصيتها المرحة وجاذبيتها ورشاقتها، إضافة لصوتها الجميل، الذي يذكرنا بصوت أختها ؛ نجاة، المطربة الكبيرة.سعاد حسني في فلم الجوعكما أنّ حذقها للتعبير الميلودرامي، ربما هوَ صدىً لما عانته في أعماقها، من نكبة تلوَ الاخرى ؛ بدءاً بالحادثة المخلفة في عمودها الفقريّ إصابة بليغة، وهيَ طفلة بعد ؛ ومن ثمّ حدث طلاق أبويها، في الفترة نفسها تقريباً ؛ إلى فقدانها لشقيقتها الحبيبة، حينما كانت صبية. واتت مسيرة السينما الجديدة، المفتتحة بمحاولات صلاح أبو سيف، الواقعية، صعودَ عدد من النجوم الفتية، اللواتي إمتلكن الموهبة الأصيلة جنباً لجنب مع الجاذبية والسحر في القسمات والقوام ـ كفاتن حمامة ونادية لطفي وليلى طاهر وزبيدة ثروت. من جهتها، فإنّ سعاد حسني لم تمتلك وجهاً جميلاً وحسب، بل إن ما في قسماته من تعبير لا يحدّ، ليُشبه الإعجاز. إنه وبمعنى ما، وجه منذورٌ لتراجيديا الإنسان ؛ لإسطورته وخلوده، سواءً بسواء. لا غروَ إذاً، أن تكون السينما مرآة لهكذا ملامح فاتنة، مكتنفة بالغموض والإلغاز والأسرار والأحاجي. ولقد فعلت فنانتنا حسناً، حينما شاءَ لها ذكاؤها أن تتخلى مبكراً عن صقل ملكة صوتها، الرخيم، لكي تتفرغ لمهمتها الوحيدة في الحياة ـ كممثلة عبقرية.2كان مما له معناه، حقا، أن تبتده تجربة السندريلا، الفنية، بعمل ميلودراميّ، يغلب عليه الصفة الواقعية ؛ ونعني به فيلمها " حسن ونعيمة " (إنتاج عام 1959)، من سيناريو عبد الرحمن الخميسي وإخراج هنري بركات. ومباشرة ً إلى حقبة الستينات، لتواصل فنانتنا، بين فينة واخرى، أداء هكذا أدوار، مرسّخة حضورها في وجدان محبي السينما بأفلام ناجحة ؛ من قبيل " السبع بنات " للمخرج عاطف سالم (عام 1961)، المتقاسمة بطولته مع نادية لطفي وزيزي البدراوي. كذلك تعاونت مع رائد الواقعية صلاح أبو سيف، في " الزوجة الثانية " و " القاهرة 30 " (1966). والأخير عن رواية لنجيب محفوظ، حيث ضافرته بعمل آخر من تأليفه ؛ وهو فيلم " الطريق " (1967)، من اخراج حسام الدين مصطفى، ولعبت فيه دوراً ثانوياً أمام رشدي أباظة وشادية. وبالرغم من حقيقة، أنّ حقبة الستينات، المصرية، كانت الأكثر إنشغالاً بالأحداث السياسية ـ كفشل تجربة الوحدة الإندماجية مع سورية، وحرب اليمن، ثمّ حرب حزيران.. ؛ إلا أنّ المواضيع الكوميدية والميلودرامية وحتى الإستعراضية، كانت الغالبة آنذاك على الأفلام السينمائية. كان للسندريلا نصيبٌ وافر من أفلام تلك الآونة، الموسومة، وعُرفتْ من خلالها كنجمةٍ أولى، جماهيرياً. المخرج المخضرم، فطين عبد الوهاب، كان سباقا في إكتشاف الطاقة الكبيرة، الكامنة في جسد وروح سعاد حسني، والمتجلية في موهبتها الكوميدية ؛ فأسند لها دور البطولة في فيلمه " إشاعة حب " (إنتاج 1960)، الذي جمعها لأول مرة مع النجم عمر الشريف. وما لبث المخرج نيازي مصطفى، بدوره، أن تلقف هذه الموهبة الجديدة، وقدمها في أفلام إجتماعية ذات أجواء مرحة، خفيفة، توالت في الستينات ؛ كما في " الساحرة الصغيرة "، " جناب السفير " و " صغيرة على الحب "، فضلاً عن فيلمه التاريخي " فارس بني حمدان "، أمام النجم فريد شوقي. من تلك الحقبة أيضاً، لا بدّ من ذكر أفلام اخرى، أكثر نضجاً، أشتهرت سعاد حسني بأدائها لمخرجين متنوعين ؛ ومنها " المراهقات "، " التلميذة والأستاذ " و " شقة الطلبة ". علاوة على خوضها، مبكراً، غمار المشكلات النفسية ؛ بدورها الصعب، كفتاة تعاني من الإنفصام في فيلم " بئر الحرمان " للمخرج الكبير كمال الشيخ، عن قصة لإحسان عبد القدوس. هذا الأخير، قدم لها لاحقا قصة اخرى، وهيَ " أين عقلي ؟ "، من أخراج عاطف سالم (إنتاج عام 1974) ؛ المعالجة مشكلة الإنفصام، الذكوريّ هذه المرة، (مع النجم محمود ياسين)، والمضروب عليها نوع من التحريم في مشرقنا.3 في مستهل السبعينات، كانت السندريلا في أواخر العقد الثاني من عمرها ؛ صبيّة ناضجة، تمتلك ثقة كبيرة بنفسها وبقدرتها على تقديم الأفضل، فنياً. أتيح لها الآن، ولأول مرة ربما، فرصة الراحة النفسية والإستقرار الحياتي ؛ بما كان من تعرّفها، خلال تصوير فيلم " نادية "، بالمخرج علي أحمد بدرخان، ومن ثمّ إقترانها به. ويمكننا الجزم، بأنّ هذه الفترة، الشاملة لعقد السبعينات كله، كانت الأكثرَ غنىً في تجربة سعاد حسني ـ كنجمة سينمائية من الطراز الأول. لنتذكرَ أنّ دررها الفنية، من أدوار ميلودرامية وواقعية، تمتّ لذلك العقد، الفريد حقا. قد تكون صورة السندريلا، هيَ المنطبعة دوماً في ذاكرة محبيها، وخصوصاً في تجسّدها بدور الفتاة الفقيرة، الساعية لبلوغ أمانيها في الحياة عن طريق الإرتباط بشاب غنيّ ؛ كما نعاينه في أفلام " خلي بالك من زوزو "، " الحب الذي كان " و " أميرة حبي أنا "، التي غلبت عليها الصفة الإستعراضية، من رقص وغناء. بيْدَ أنّ تاريخ السينما، عموماً، لن يكون مكتملاً دونما إضافة أفلام سعاد حسني الاخرى، الأكثرَ نضجاً وحرفية وجديّة ؛ تلك التي وسمنا بعضها فيما سلف. لعل فيلم " الحبّ الضائع " (إنتاج عام 1970)، كان من أهم أعمال السندريلا، في ذلك العقد. قصة الفيلم للأديب طه حسين، ومن إخراج المبدع هنري بركات، الذي سبق أن تعامل مع قصة اخرى له ؛ وهيَ " دعاء الكروان "، من بطولة فاتن حمامة.سعاد حسني إنما في الآونة الأخيرة، فقد ذهب أحد النقاد (د. محمد نجيب التلاوي ـ صحيفة " الوطن " ليوم 6 / 10 / 2005)، إلى الجزم بأنّ قصة " الحبّ الضائع " معربة من الفرنسية، وأنها من تأليف كاتب مغمور. إذ وبحسب المصدر نفسه، فإن بيبلوغرافيا طه حسين كانت قد ثبتت كلمة " تعريب "، في الطبعة الأولى للقصة، والتي ما لبثت أن حُذفت من الطبعات الاخرى، التالية ؟ وعلى كل حال، فإنّ حكاية هذا النص الروائي، تتمحور حول ثيمة " الحب المحرم " ؛ حبّ إمرأة لزوج صديقتها. إنها لتذكرنا بالرواية الكلاسيكية، " الخطيئة "، للفرنسي أميل زولا. وبالرغم من حقيقة أنّ هذه الأخيرة، إنما تقدم الثيمة نفسها ضمن علاقة معكوسة ؛ أيْ حبّ إمرأة لصديق زوجها. وعودة إلى فيلم سعاد حسني، الذي تلعب فيه دور الشابة " ليلى "، والمُستهلّ بعودة هذه من الخارج بعد ترملها. تبقى بضعة أيام في القاهرة، بضيافة " سامية " (زبيدة ثروت) ؛ أقرب الصديقات إليها. بطلتنا، كانت في حالة نفسية صعبة ‘ إثر صدمتها بوفاة الزوج، المباغتة. فلا غروَ إذاً، أن تنجذبَ دونما وعي إلى " مدحت " (النجم رشدي أباظة) ؛ زوج صديقتها، ومن يهيم الآن بحبها. على أنها تقوم بصده، بعدما تنتبه لنفسها وبما قد تجره علاقة كهذه، محرمة، من مشاكل ومآس. وفاؤها، يجعلها تلتجيء إلى والد صديقتها تلك (النجم محمود المليجي)، الذي يدير مشفى حكومياً، عسكرياً، في مدينة " الإسماعيلية "، الواقعة يومياً على مرمى النيران الإسرائيلية. وبالرغم من إقحام قضية الواجب الوطنيّ هنا، كنوع من تطهير الذات، بالنسبة للبطلة التي تتطوع كممرضة ؛ إلا أنّ حكاية الفيلم تتطور بشكل دراماتيكيّ، غير متوقع. إذ تسافر " ليلى " إلى المغرب، فجأة، بغية الإستقرار هناك، نهائياً، وفي محاولة أخيرة للهرب من " مدحت ". وإذا بها تلتقيه هناك، مصادفة، حينما يكون بدوره في رحلة عمل لمدينة " مراكش " ! تعودُ ثانية للوطن، لتبتدأ علاقة عشق، حميمة، مع زوج صديقتها هذا. ولكن لقاءاتهما، السرية، في إحدى الفيلات، سرعان ما تتكشف للزوجة المخدوعة. وتنتهي الحكاية، حينما تبادر " ليلى " للإعتراف لصديقتها بضعفها وطلبها الصفح منها، ومن ثمّ هروعها لقيادة عربتها نحو طريق المجهول، والمودي بها مباشرة ً إلى التدهور في لجة وادٍ، مهلك. بشكل عام، يمكن القول بأن " الحبّ الضائع "، وقبل كل شيء، هيَ حكاية المجتمع المصريّ في إحدى منعطفاته المصيرية، الهامة : كان مما له مغزاه العميق حقا، أن يكتنفَ الحيرة كلٌ من هذين العاشقين، في تلك العلاقة، المحرمة. بينما أنّ الحل، في واقع الحالة الراهنة، كان ميسوراً وبسيطاً للغاية ؛ وهوَ اللجوء إلى " حكم الشرع "، المبيح تعدد الزوجات عرفياً أو مسياراً أو على سنة الله ورسوله ! أما عن رمزية حكاية " الحبّ الضائع "، فإنها تجيز لنا الإفتراض، بأنها حكاية سعاد حسني، الإنسانة ؛ في عشقها المستحيل وتوحدها وإحباطها وقنوطها، وأخيراً في مصيرها، الفاجع. هذا المصير، سجلته نهاية الفيلم، بإنتحار بطلته " ليلى ". أهيَ نهاية السندريلا ؛ الفتاة الأسطورة، التي هامَ في البحث عنها أميرُ أحلامها، وبيده فردة منسية من حذائها ؛ حتى إذا ما عثرَ عليها، فما عتم أن فقدها، أبداً : ربما أنّ ما بقيَ لحكاية السندريلا كي تكتملَ، ما نعرفه عن لغز فردة حذائها، المهملة على عتبة شرفة الإنتحار، هناك في " لندن " ؟
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire